اختلف القائلون في المسألة السابقة باشتراط الخطبة للجمعة - وهم الجمهور - فيما يتحقق به هذا الشرط، هل يتحقق بخطبة واحدة، أو لا بد من خطبتين؟ وذلك على قولين.
القول الأول: أنه يشترط خطبتان.
وبهذا قال الإمام مالك في رواية عنه، وبها أخذ بعض أصحابه (1) وبه قال الشافعية (2) وهو الرواية المشهورة عن الإمام أحمد، والمذهب عند أصحابه (3)
القول الثاني: أنه لا يشترط خطبتان، بل يجزئ خطبة واحدة، وبهذا قال الحنفية (4) والإمام مالك في رواية عنه، وبها أخذ بعض أصحابه (5) وهو رواية عن الإمام أحمد (6).
الأدلة: استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1- ما رواه عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما – (أن النبي صلى عليه و سلم كان يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس) (7)) (8).
2- ما رواه جابر بن سمرة tقال: كان رسول الله صلى عليه و سلم يخطب قائما، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما ) (9) الحديث (10)
وجه الدلالة من هذين الحديثين: أن فيهما أن النبي صلى عليه و سلمكان يخطب للجمعة خطبتين، وقد قال: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (11) (12) (13).، ويرد على هذا الاستدلال ما ورد عليه في المسألة السابقة من أن هذا مجرد فعل، وهو لا يدل على الوجوب، ولكن يجاب عنه بما أجيب عنه هناك.
3- أن الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين من صلاة الظهر، فكل خطبة مكان ركعة، فالإخلال بإحداهما كالإخلال بإحدى الركعتين (14).
مناقشة هذا الدليل: يمكن مناقشته بأن اعتبار الخطبتين بدل عن ركعتين من الظهر لم يثبت كما تقدم (15) فلا يصح الاستدلال به، والله أعلم.
أدلة أصحاب القول الثاني: استدلوا بأدلة من السنة، وآثار الصحابة: -
أولا: من السنة: ما رواه جابر بن سمرة أن رسول الله صلى عليه و سلم كان يخطب قائما خطبة واحدة، فلما أسنَّ جعلها خطبتين يجلس جلسة (16).
قال في المبسوط بعد سياقه له: " ففي هذا دليل أنه يجوز الاكتفاء بالخطبة الواحدة " (17).
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأنه لم يثبت هذا عن النبي صلى عليه و سلم كما في تخريجه في الهامش؛ لعدم العثور عليه في كتب السنة المعروفة، وإنما ثبت من حديث جابر كما تقدم في أدلة أصحاب القول الأول من أنه صلى عليه و سلمكان يخطب خطبتين، والله أعلم.
ثانيا: من آثار الصحابة - رضي الله عنهم -:
1- ما روي عن علي بن أبي طالب في الجمعة أنه خطب فلم يجلس حتى فرغ (18).
وجه الدلالة: أن عليا لم يجلس في أثناء خطبته، فدل على أنه اكتفى بخطبة واحدة؛ لأنه لو خطب خطبتين لفصل بينهما بجلسة.
مناقشة هذا الدليل: يناقش من وجهين:
الأول: أنه مُتكلم في سنده كما في تخريجه.
الثاني: على القول بصحته فإنه ليس فيه تصريح بأنه اكتفى بخطبة واحدة، وإنما غاية ما فيه أنه لم يجلس حتى فرغ، فيحتمل أنه اكتفى بالسكوت اليسير بينهما دون الجلوس ثم استفتح الثانية كالأولى، والله أعلم.
2- ما روي عن المغيرة (19) بن شعبة أنه لم يجلس بين الخطبتين (20) ، وتوجيه الاستدلال كالذي قبله.
ويناقش - إن ثبت - بالوجه الثاني من الوجهين الذين نوقش بهما ما قبله، وبأنه فعل صحابي، وهو مختلف في الاحتجاج به، والله أعلم.
الترجيح: الذي يظهر رجحانه في هذه المسألة - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول القائل باشتراط خطبتين للجمعة؛ لقوة أكثر أدلتهم.