Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
albasseira.overblog.com

un blog qui traite des sujets sur l'islam

تأملات في نشأة الجيل الأول

تأملات في نشأة الجيل الأول

نحتاج أن نقف وقفات طويلة نتأمل فيها نشأة الجيل الأول؛ لأن فيها زاداً كاملاً لكل من أراد أن يدعو، أو يتحرك بهذا الدين فى عالم الواقع، فقد صنع ذلك الجيل على عين الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه لموسى عليه السلام : ((ولتصنع على عينى))(طه : 39)، ونشأ على يدى أعظم مرب فى تاريخ البشرية، محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم، فكان جيلاً فريداً فى تاريخ البشرية كله، يوجهه الله بالوحى، ويتابعه رسول الله صلى الله عليه و سلم بالتربية والتوجيه، فاكتملت له كل وسائل النشأة الصحيحة فى أعلى صورة، فأصبح كالدرس ((النموذجى))، الذى يلقيه الأستاذ ليعلم طلابه كيف يدرسون، حين يئول إليهم أمر التعليم.

ثم إن إرادة الله سبحانه وتعالى قد اقتضت أن يتم أمر هذا الدين على السنن الجارية – لا الخارقة- لحكمة أرادها الله، لكى لا يتقاعس جيل من الأجيال فيقول: إنما نصر الجيل الأول بالخوارق، وقد انقطعت الخوارق بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم !، فما كان فى هذا الدين من عناصر غير بشرية، فهو الوحى المنزل من عند الله، وذلك باق ومحفوظ بحفظ الله: ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون))(الحجر:9).

وهو بالنسبة للجيل الأول كالجيل الأخير، هو كلمة الله لهذه الأمة، وللبشرية كافة، تحمل حقيقة هذا الدين، وتحمل المنهج الربانى، الذى يريد الله من البشر، إلى قيام الساعة، أن يقيموا عليه حياتهم، ويؤسسوا عليه بنيانهم، سواء كان هو الكتاب المنزل، أو البيان الذى قام به رسول الله صلى الله عليه و سلم لهذا الكتاب، بالسنة القولية أو العملية: ((وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)) (النحل: 44) . ((وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحى يوحى))(النجم : 3-4).

أما قتال الملائكة مع المؤمنين فى بدر، فلم يكن هو فى ذاته الخارقة: ((إذ يوحى ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقى فى قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان))(الأنفال : 12) 00 فنزول الملائكة وتثبيتهم للبشر، لا يقتصر على معركة بدر، إنما قد يحدث بأمر الله فى أية مناسبة: ((إن الذين قالوا ربنا ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم وعدون(30) نحن أولياؤكم فى الحياة الدنيا وفى الآخرة00)) (فصلت : 30-31)

إنما كانت الخارقة هى رؤية المؤمنين للملائكة وهى تقاتل معهم : ((وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم))(آل عمران : 126).

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد اختص بها أهل بدر من دون المؤمنين، فقد كانت بدر حدثا كونياً لا يتكرر كل يوم : ((يوم الفرقان يوم التقى الجمعان))(الأنفال : 41) .. فهى التى كتبت التاريخ، وليس فى كل يوم يكتب التاريخ .. إنما تكتب منه سطور إثر سطور!.

وفيما عدا هذه الخارقة التى اختص بها أهل بدر، كوفيما عدا ما يختص بشخص الرسول صلى الله عليه و سلم ، فقد جرت أمور الإسلام كلها على السنة الجارية، من استضعاف فى المبدأ، وابتلاء وصبر وتمحيص، ثم تمكين على تخوف، ثم تمكين على استقرار وقوة، ثم انتشار فى الأرض. لذلك فإن الدروس المستفادة من نشأة الجيل الأول هى دروس دائمة، لا تتعلق بالنشأة الأولى وحدها، وإنما هى قابلة للتطبيق فى كل مرة تتشابه فيها الظروف أو تتماثل، لأنها سنن جارية، وليست حوادث مفردة عابرة لا تتكرر.

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد وجهنا فى كتابه المنزل، لتدبر السنن الربانية، ودراسة التاريخ – الذى هو فى الحقيقة مجرى السنن فى عالم الواقع – فنحن جديرون أن نعكف على دراسة النشأة الأولى؛ لنستخلص منها الدروس والعبر، ولتكون هادياً لنا فى كل تحرك نقوم به، ومحكاً لاستقامتنا على الطريق أو انحرافنا عنه.

وقد استوقفنى فى أمر النشأة الأولى عدة أمور، زاد من رغبتى فى تدبرها وتأملها ما أراه بين الحين والحين من مخالفة لمقتضياتها فى مسيرتنا الحالية، وما أراه قد ترتب على هذه المخالفة من نتائج معوقة للمسيرة، فأحببت أن أعرض بعض هذه الأمور فى هذه الصفحات، داعياً الله أن يجنبنا الزلل دائماً وأن يهدينا إلى سواء السبيل.

من أشد ما استوقفنى فى مسيرة الجيل الأول، ذلك الأمر الربانى للمؤمنين أن يكفوا أيديهم فى مرحلة التربية بمكة، وأن يتحملوا الأذى صابرين، وقد أشار الله إلى هذا الأمر فى قوله تعالى، مذكراً به: ((ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة))(النساء : 77)

وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد سأل الرسول صلى الله عليه و سلم حين اشتد الأذى بالمؤمنين: ألا نقاتل القوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (( ما أمرنا بقتالهم)).

ولم يرد فى النصوص – لا فى الكتاب ولا فى السنة – بيان لحكمة هذا الأمر الربانى، ومن ثم فالأمر متروك للاجتهاد لمعرفة الحكمة منه، وربما كان أيسر سبيل للتعرف على حكمته، أن نفترض أن المؤمنين كانوا قد دخلوا فى معركة مع قريش فى ذلك الحين، فماذا كان يمكن أن يترتب على ذلك؟ ثم نتدبر الفوائد التى تحققت حين كفوا أيديهم ولم يدخلوا فى معركة فى ذلك الوقت أبسط ما يمكن أن يتصور من نتائج هذه المعركة غير المتكافئة، أن تتمكن قريش من إبادة المؤمنين، وهم حينئذ قلة مستضعفة لا سند لها، فينتهى أمر الدعوة الجديدة فى معركة واحدة أو عدة معارك متلاحقة، دون أن يتحقق الهدف، ودون أن يتعرف الناس على حقيقة الدعوة، ودون أن يكتب لها الانتشار .

ونفترض أن المعركة – على الرغم من عدم تكافئها – لم تؤد إلى إبادة المؤمنين كلهم، فثمة أمر آخر على غاية من الأهمية، يلفت انتباهنا بشدة، لاتصاله بما يجرى من أحداث فى وقتنا الحاضر، لمن كانت الشرعية فى تلك المرحلة فى مكة؟ لقد كانت فى حس الناس جميعاً لقريش..!

وما وضع المؤمنين يومئذ؟ وضعهم أنهم خارجون على الشرعية!، ومن حق صاحب الشرعية – ولاشك – أن يؤدب الخارجين عليه !، و صحيح أن قريشاً تشتد فى ((التأديب)) إلى حد الفظاظة والقسوة، وأن بعض الناس قد يتأذى لهذه الفظاظة، حتى ليحاول أن يبسط حمايته – أو جواره – على بعض المعذبين المستضعفين، ولكن يظل الأمر فى حس الناس – من حيث المبدأ – أن قريشاً هى صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، وأن من حق صاحب الشرعية أن يؤدب الخارجين عليه!

فهل كان من مصلحة الدعوة أن يدخل المؤمنون يومئذ فى معركة مع قريش، وهذا التصور هو السائد بين الناس؟!

كلا بالطبع ! والآن فلننظر ماذا تم حين استجاب المؤمنون للأمر الربانى وكفوا أيديهم، لقد تمت أمور كثيرة فى الحقيقة .

ففى البيئة العربية المعروفة ((بإباء الضيم))، والتى تحدث فيها المعارك الضاربة، لأسباب نرى نحن اليوم أنها تافهة، لا تستحق أن تراق فيها قطرة دم واحدة، وقد تطول تلك المعارك سنوات عديدة، ويفنى فيها كثير من الخلق كمعركة داحس والغبراء فى البيئة التى يمتشق فيها الرجل الحسام لأدنى إهانة توجه إليه.

فى تلك البيئة، يؤذى رجال ذوو حسب ونسب، منهم من هو من أشراف قريش ذاتها، ثم لا يردون! شىء يلفت النظر ولاشك، لأنه مخالف مخالفة تامة لأعراف البيئة.

بعبارة أخرى، شىء ليس من صنع البيئة فلابد أن يكون من صنع شىء آخر خلاف البيئة!، ثم يشتد الأذى ويستمر وهم صابرون!، هنا معنى جديد ليس من صنع البيئة كذلك، ففى سبيل أى شىء يحتمل هؤلاء ما يقع عليهم من الأذى، ثم يظلون مصرين على التمسك بما يعرضهم للأذى؟

أفى سبيل شرف القبيلة؟ أفى سبيل مغنم من مغانم الأرض؟ أفى سبيل شهوة من شهوات الأرض؟

لا شىء من ذلك كله إنما هو سبيل ((عقيدة)) يعتقدونها، و قد تفهم هذه البيئة أن تكون العقيدة أعرافاً وتقاليد، يستمسك الناس بها، وقد يقاتلون من أجلها، أما أن يتحملوا الأذى فى سبيلها –وهم لا يردون – فأمر جديد كل الجدة على هذه البيئة، بيئة الأعراف والتقاليد !، ثم نمضى شوطاً آخر، فيتضح أمر جديد.

إن الأذى يشتد حتى يصبح مقاطعة اقتصادية واجتماعية، ويصل إلى حد التجويع، بل يصل ببعض الناس حتى الموت، ولا يتخلفون عن عقيدتهم!.

لا يمكن – فى عرف البيئة، ولا فى عرف البشر عامة – أن يتحمل الناس مثل هذا الأذى من أجل باطل، إنما لابد أن يكون حقاً يعتقده صاحبه، ويحتمل الأذى من أجله، ويموت من أجله، بل إن هذا الحق الذى يعتقده هو أغلى عليه من أمنه وراحته ومكانته وكرامته و حتى من نفسه، حتى من حياته.

تلك المعانى كلها، التى برزت للوجود من خلال ((كفوا أيديكم)) هى التى أتت بالأنصار من المدينة، حتى وإن لم تغير كثيراً من الأحوال فى مكة !، نستطيع أن نقول فى عبارة موجزة : إن أهل مكة اصطلوا النار، ولكن أهل المدينة استضاءوا بها عن بعد، فاهتدوا إلى الحق الذى شاء الله لهم أن يهتدوا إليه ولم يكن هذا وحده هو الذى اتضح للأنصار، من خلال ((كفوا أيديكم)).. لقد اتضح أمر أخر له أهميته البالغة فى خط سير الدعوة، وهو قضية ((الشرعية)).

يقول سبحانه وتعالى فى سورة الأنعام، وهى سورة مكية: ((وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين))(الأنعام : 55)، وكأن المعنى: نظل نفصل الآيات حتى تستبين سبيل المجرمين.

وورود هذا المعنى فى آية مكية له دلالة واضحة، أو ينبغى أن تكون واضحة، فاستبانة سبيل المجرمين هدف مقصود، تبينه لام التعليل فى قوله تعالى : ((ولتستبين)). ونزول هذه الآية فى الفترة المكية، معناه أن استبانة سبيل المجرمين هى من أهداف الدعوة، بل من لوازم الدعوة فى الفترة الأولى التى يتم فيها نشأة الجماعة المسلمة.

فما الذى تحققه استبانة سبيل المجرمين للدعوة؟

إن استبانة سبيل المجرمين تتضمن أمرين: أولاً : بيان من هم المجرمون؟ وثانياً: بيان السبيل الذى يسلكونه، والذى من أجله أصبحوا مجرمين.

فمن هم المجرمون؟ وما سبيلهم؟ وما علاقة تفصيل الآيات باستبانة سبيلهم؟

لقد فصلت الآيات قضية الألوهية، وهى القضية الأولى والكبرى فى القرآن كله، والسور المكية بصفة خاصة .

فصلت الآيات أنه إله واحد لا شريك له، ولا يمكن أن يكون له شركاء فى الخلق ولا فى التدبير، ولا فى أى شأن من الشئون، وظلت الآيات تتنزل مبينة صفات ذلك الإله، وتنفى عنه الشركاء حتى صار المعنى واضحاً تماماً، سواء لمن آمن أو لمن كفر، فقد كان الكفار قد أصبحوا على بينة تامة مما يريد منهم رسول اللهr أن يعلموه ويؤمنوا به، حتى قالوا كما روى الله عنهم: ((أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشىء عجاب))(ص:5).

ولما تبين أنه إله واحد لا شريك له، طلب من الناس أن يعبدوه وحده بلا شريك؛ لأنه وحده الحقيق بالعبادة، وأن ينبذوا ما يدعون من الآلهة الزائفة، وأن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، ولا يتبعوا من دونه أولياء: ((اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون))(الأعراف: 3).

وعلى هذا فقد انقسم الناس فريقين اثنين: فريق المؤمنين، وهم الذين آمنوا أنه إله واحد، فعبدوا وحده بلا شريك، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، وفريق المجرمين وهم الذين أبوا أن يؤمنوا به، وأن يعبدوه وحده، وأن يتبعوا ما أنزله إليهم.

وإذن، فأين تقع قريش فى هذا التقسيم؟

لقد كانت قبل تفصيل الآيات هى صاحبة الشرعية، وكان المؤمنون فى نظر قريش، وفى نظر الناس أيضاً، خارجين على الشرعية، فما الموقف الآن بعد تفصيل الآيات؟ وبعد ما رفضت قريش أن تؤمن بالله الواحد، وتبعده وحده بلا شريك، وتتبع ما أنزل الله؟ هل بقيت هى صاحبة الشرعية، وبقى المؤمنون هم الخارجين على الشرعية؟ أم تبدل الحال عند بعض الناس على الأقل، فأصبحت قريش وأمثالها هم المجرمين، وأصبح أصحاب الشرعية هم المؤمنين؟!.

إنها نقلة هائلة فى خط سير الدعوة، أن يتبين الناس من هم المجرمون، وما سبيلهم، ويتبينوا فى المقابل من هم الذين على الحق، وما هو سبيل الحق

ولقد كان الإشكال بالنسبة لقريش خاصة أنهم هم سدنة البيت، الذى يعظمه العرب جميعاً، فضلاً عن كونهم أصحاب ثروة وأصحاب جاه وحسب ونسب، فاجتمعت لهم بمقاييس الجاهلية كل مقومات الشرعية، ممتزجة ببقايا الدين المحرف الذى ينتسبون به إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فلم تكن زحزحة الشرعية عنهم أمراً هيناً، خاصة والخارجون على شرعيتهم ضعاف فقراء لا قوة لهم ولا مال ولا سند من أحد من ذوى السلطان!.

لقد كانت العقيدة الصحيحة وحدها هى التى يمكن أن تجليهم عن شرعيتهم المدعاة، وتكشفهم على حقيقتهم، وهى أنه مجرمون لا شرعية لهم، لرفضهم الإيمان بالله الواحد، وعبادته وحده بلا شريك، واتباع ما أنزل الله

وهنا نسأل : لو أن المؤمنين فى مكة دخلوا فى معركة مع قريش، فهل كانت تستبين سبيل المجرمين؟ لو دخلوا المعركة وفى حس الناس أن قريشاً هى صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، فهل كان يمكن أن يستقر فى خلد أحد – كما استقر فى خلد الأنصار – أن القضية لها معيار أخر غير سدانة البيت، وغير المال والجاه، وكثرة العدد، ورصيد العرف، ورصيد التاريخ؟ وأن هذا المعيار هو : لا إله إلا الله هو الإيمان بألوهية الله وحده بلا شريك، وما يترتب على ذلك من ضرورة اتباع ما أنزل الله، وأن هذا هو الحق الذى لا شىء بعده إلا الضلال، وأن هذه هى القضية الكبرى التى يقاس بها كل شىء، وينبنى عليها كل شىء؟.

هل كان يمكن أن يصل الحق الذى يحمله المؤمنون إلى أفئدة فريق من الناس، كما وصل إلى أفئدة الأنصار، لو أن المؤمنين دخلوا معركة مع قريش، أم كان غبار المعركة يغشى على حقيقة القضية، وتنقلب القضية بعد قليل إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، وتصبح قضية ((لا إله إلا الله)) على هامش الصورة، إن بقى لها فى حس الناس وجود على الإطلاق؟!

أظن الصورة واضحة،

لقد كانت ((كفوا أيديكم)) هى سر الموقف كله !

كانت هى التى أتاحت لقضية لا إله إلا الله – وهى قضية الرسل جميعاً من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه و سلم أن تبرز نقية شفافة واضحة، غير مختلطة بأى قضية أخرى على الإطلاق، فتنفذ إلى القلوب التى أراد الله لها الهداية صافية من كل غبش، فتتمكن من تلك القلوب، ويرسخ فيها الإيمان، كما تنفذ إلى القلوب التى لم يرد الله لها الهداية، صافية من كل غبش، فيكفر أصحابها كفراً لا شبهة فيه، كفراً غير مختلط لا بالدفاع عن النفس، ولا الدفاع عن المال، ولا الدفاع عن الأمن والاستقرار؛ إنما هو الرفض الصريح الواضح للا إله إلا الله. وذلك توطئة لقدر قادم من أقدار الله، هو سنة من السنن الجارية : ((ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حى عن بينة))(الأنفال : 42).

هذا الوضوح الذى أتاحته للقضية ((كفوا أيديكم)) ، هو من مستلزمات الدعوة فبغير استبانة سبيل المجرمين، على أساس ((لا إله إلا الله))، واستبانة سبيل المؤمنين فى المقابل، على ذات الأساس، لا يمكن أن تتسع القاعدة بالقدر المعقول فى الزمن المعقول، وتظل الدعوة ترواح مكانها، إن لم يحدث لها انتكاس بسبب من الأسباب.

وحين وضحت القضية على هذا النحو من خلال ((كفوا أيديكم)) ، جاء الأنصار !، وحين جاء الأنصار اتسعت القاعدة، وحدث تحول فى التاريخ ! ولنا هنا وقفة عند هذه القضية .

من هم الأنصار ؟

هل هم جماهير متحمسة، ألهب حماستها الإعجاب بشخص الرسولr، والتعاطف مع هذه الفئة الفذة من البشر، الذين صبروا على الابتلاء، هذا الصبر الطويل الجميل، وثبتوا رغم الصعاب وشدة البلاء ؟!.

أم هم جنود جاءوا يعرضون جنديتهم على القائد، ويدخلون فى صف المجاهدين؟.

ما أبعد الشقة بين هذا الوضع وذاك ف خط سير الدعوة !

لاشك أن الحب لرسول اللهr كان قائماً فى قلوبهم، من كثرة رأوا وسمعوا عن خاصله الكريمةr، وقد كان نموذجاً فريداً فى البشر، لا يدانيه أحد ممن عرفوه أو سمعوا عنه خلال التاريخ. ولاشك أن التعاطف مع المعذبين فى الأرض، كان قائماً فى قلوبهم، من كثرة ما رأوا وسمعوا من ألوان التعذيب، وألوان الصبر على التعذيب.

ولكن هذا وذاك لم يكن الدافع الأوحد الذى يحركهم؛ إنما حركهم ابتداء أنهم آمنوا أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله .. آمنوا بالله ربا، وبمحمد صلى الله عليه و سلم رسولاً، وبالإسلام ديناً، فجاءوا يبايعون على السمع والطاعة، وعلى الموت والحياة.

قال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : ((تمنعونى؟)) قالوا : نمنعك مما نمنع منه نساءنا وأطفالنا. وقالوا : لو استعرضت بنا الصحراء قطعناها، ولو خضت بنا هذا البحر خضناه ، جندية كاملة للدعوة الجديدة.

لم يأن بعد أوان ((الجماهير))! إنما يأتون فى موعدهم المقدر عند الله،

ولكن ماذا لو كان الأنصار رضى الله عنهم، مجرد جماهير متحمسة، جاءت بدافع الحماسة والحب والتعاطف فحسب.. هل كانت حماستهم تصبر على لأواء الطريق؟ هل كانت تصبر للصدام حين يأتى الإذن من الله العلى القدير برد العدوان ؟!.

أما أن الرسول صلى الله عليه و سلم كان سيفرح بدخولهم فى الدعوة واعتناقهم الإسلام، فأمر لا نظنه موضع شك.. وأما أن المؤمنين من أهل مكة كانوا سيفرحون برؤية إخوان لهم فى العقيدة،ن فأمر لا نظنه كذلك موضع شك .. أما أن الرسول صلى الله عليه و سلم كان سيتحرك بهم فى خط الدعوة، فأمر يحوطه الشك الكثيف، ودليله سؤال الرسول صلى الله عليه و سلم لهم : ((تمنعونى))؟ فالسؤال لم يكن عن إيمانهم، وقد جاءوا يعرضونه صريحاً بلا مواربة، إنما كان عن خطوة أخرى وراء الإيمان، وهى تجنيدهم أنفسهم لما آمنوا به وعرفوا أنه الحق .

لم يكن الرسول صلى الله عليه و سلم سيتحرك بهم، لو أنه رأى من أحوالهم أنهم مجرد جماهير متحمسة، لم تجند نفسها بعد للدعوة .. ولم يكن سيعتبر أن القاعدة قد اتسعت بتلك الجماهير المتحمسة التى آمنت – نعم – ولكنها لم تجند نفسها لاحتمال التكاليف.

متى جند الأنصار أنفسهم للدعوة؟

قلنا من قبل: إن النار التى اصطلى بها المؤمنون فى مكة، هى النور الذى استضاء به الأنصار فى المدينة، فجاءوا يعرضون أنفسهم لنصرة رسول الله صلى الله عليه و سلم والدين الجديد.

لقد جاءوا بقدر من الله – نعم – ولكن بسنة من سنن الله كذلكن، إن وجود النموذج الواقعى، الذى يشهد للدعوة الجديدة، هو النواة التى يحدث حولها التجمع، ويحدث التجمع تلقائياً حول النواة ((الأم))، ثم يتسارع بعد ذلك، كلما زاد حجم النواة.. سنة ربانية فى الكون المادى وفى حياة البشر سواء !.

والنواة الأم كانت هى الجماعة المؤمنة التى تكونت فى مكة حول رسول الله صلى الله عليه و سلم ، والتى شكلها الوحى المنزل من عند الله، وصقلها المربى العظيم صلى الله عليه و سلم بما أضفى عليها من روحه، وأعطاها من جهده، وتابع نموها بصبره وجلده وسعة صدره وحكمته وبصيرته.. ثم جاءت الابتلاءات فزادتها صقلاً وصلابة وقرباً من الله .

ومن خلال ((كفوا أيديكم)) تكونت النواة الأم التى صنعت التاريخ !

ولو كان المؤمنون قد دخلوا فى معركة مع قريش فى مكة، لتأخر كثيراً تكون النواة الأم، ولتغيرت كثيراً صفاتها التى اكتسبتها، وذلك فوق الغبش الذى كان سيصيب قضية لا إله إلا الله، حين تتحول إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، ولتأخر كذلك التجمع الصلب حول النواة الصلبة المصقولة المتينة البناء .

والآن فلنستعرض ما تم حتى الآن من خلال ((كفوا أيديكم))، ولقد تمت أمور على غاية من الأهمية فى مسيرة الدعوة، تم تحرير موضع النزاع، إن صح التعبير إنه قضية ((لا إله إلا الله)) دون غيرها من القضايا، ليس الصراع الدائر بين قريش وبين المؤمنين على سيادة أرضية، ولا على السلطة السياسية (وقد عرضت السلطة على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأباها، وأصر على لا إله إلا الله، والمؤمنون من جانبهم لم يتحركوا حركة واحدة، تهدف إلى الاستيلاء على السلطة))، ليس الصراع على ((شرف)) سدانة اليبت، ولا ((وجاهة)) خدمة الحجيج.

ليس على القوة الاقتصادية التى تملكها قريش وحدها دون المؤمنين، وتحارب المؤمنين من خلالها بالحصار والتجويع، والمؤمنون لا يتعرضون لها من قرب ولا بعيد.

الصراع كله على القضية الكبرى التى هى – والتى يجب أن تكون دائماً – القضية الأولى، والقضية الكبرى فى حياة الإنسان، قضية من المعبود؟ ومن ثم من صاحب الأمر؟ من المشرع؟ من واضع منهج الحياة؟ قريش تريدها حسب أهوائها وخيالاتها وموروثاتها وأعرافها، والمؤمنون حول رسول الله صلى الله عليه و سلم يريدونها لله.

وتم تركيز الجهد وتوفيره لتربية القاعدة الصلبة، التى ستحمل البناء وتم تحرير قضية ((الشرعية)) ، بتفصيل الآيات واستبانة سبيل المجرمين،

وتم أخيراً اتساع القاعدة بالجنود الذين استضاءوا بالنار التى اكتوى بها أهل النواة الأم، فتجمعوا بقدر من الله، وبحسب سنة من سنن الله، حول تلك النواة، مضيفين إليها قوة حقيقية فى الصراع، ثم تم أمر آخر بالغ الأهمية كذلك، هو الترد لله .

إن التجرد لله عنصر من أهم العناصر التى تحتاج إليها الدعوة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، بالنسبة للقاعدة بصفة خاصة، وبالنسبة لجميع العاملين على وجه العموم.

ولقد تعمق التجرد لله فى قلوب الصفوة المختارة، خلال فترة التربية فى مكة، من خلال الآيات المنزلة من عند الله، تدعو إلى إخلاص العبادة لله، ومن خلال القدوة المباشرة فى شخص الرسول صلى الله عليه و سلم، يعلمهم بالسلوك العملى كيف يكون إخلاص العبادة لله.

فأما رسول الله فقد أدبه ربه فأحسن تأديبه، كان عليه الصلاة والسلام، فى مبدأ قيامه بالدعوة، شديد التأثر بتكذيب الناس له، شديد الحرص على هدايتهم، شديد الحزن عليهم بسبب إعراضهم عن الهدى الربانى، وذلك بما فطر عليه من حب الخير لجميع الناس.

وكان الوحى يتنزل عليهr، لتسليته والتسرية عنه : ((قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون))(الأنعام : 33) ((واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك فى ضيق مما يمكرون))(النحل : 127)، ويتنزل الوحى لصرفه صلى الله عليه و سلم عن شدة الحزن، وشدة التطلع لآية من عند الله تجعلهم يؤمنون: ((فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا(6) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا(7) وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا))(الكهف : 6-8) . ((وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا فى الأرض أو سلما فى السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين(35) إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون))(الأنعام : 35-36).

ويتنزل الوحى ليقول للرسول صلى الله عليه و سلم : إن مهمته هى البلاغ فحسب، أما النتائج فمن صنع الله وحده : ((إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين))(القصص:56)، ومن أشد ما يلفت النظر فى هذا الشأن، أنه فى خلال فترة التربية فى مكة، لم يتنزل وعد واحد بالنصر لشخص الرسول صلى الله عليه و سلم ، إنما كان يقال له: ((وإن ما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب))(الرعد : 40) . بينما كان النصر والتمكين لهذا الدين مستيقناً عند رسول الله صلى الله عليه و سلم.

يقول خباب بن الأرت رضى الله عنه : شكونا إلى رسول اللهr وهو متوسد بردة له فى ظل الكعبة، فقلناب ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ (وذلك لما اشتد إيذاء المشركين للمؤمنين فى مكة) فقال صلى الله عليه و سلم : ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له فى الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الركب من صنعاء إلى حضر موت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون))، و بتوجيهات الوحى، تجرد قلب الرسول صلى الله عليه و سلم ، حتى من رغبة التمكين لهذا الدين أثناء حياته، وتجرد للبلاغ. ثم ربى رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه على التجرد لله، حتى خلت نفوسهم من حظ نفوسهم، كما تحكى عنهم كتب السيرة، وصار همهم كله أن يخلصوا العبادة لله .

ولما علم الله من قلوبهم أنها تجردت له، مكن لهم فى الأرض، وأذن لهم فى رد العدوان : ((أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير(39) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز(40) الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور))(الحج : 39-41).

Partager cet article
Repost0
Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article